علوم الالكترونيات

مقدمة عن التقانة النانوية

منذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأ تحول كبير في مجال البحث و التطوير العلمي – و الذي ينعكس بشكل كبير على التطور بمجال التصنيع التقني و التجاري – حيث تزايد الاهتمام بما يعرف بتقانة النانو، أو تقانة الصغائر.

ففي عام 1981، تم فريق بحثي يعمل بمختبرات شركة IBM في زيوريخ، سويسرا، و بقيادة كل من غيرد بينينغ و هنريك روهرر، من تطوير نمط جديد من المجاهر الفائقة ذات القدرات العالية، و أطلق عليه اسم “مجهر المسح النفقي STM: Scanning Tunneling Microscope” و قد أتاح هذا النمط الجديد من المجاهر، و للمرة الأولى بالتاريخ، إمكانية إجراء مسح على المستوي الجزيئي و الذري للمواد، للحصول على صور ثنائية البعد، توضح التفاصل الطوبولوجية للذرات و الجزيئات المكونة للمادة المدروسة، فضلاً عن تقديمه و للمرة الأولى، إمكانية التحكم بموضع الذرات و الجزيئات، و نقلها من موضع لآخر.

و مع حلول عام 1985، تم الإعلان عن تطوير نمط آخر من المجاهر العالية الأداء، وهو “مجهر القوى الذرية AFM: Atomic Force Microscope” و الذي تم تطويره أيضاً في مختبرات شركة IBM و بقيادة غيرد بينينغ، و يقدم المجهر ميزات مشابهة لمجهر المسح النفقي، بالإضافة لكونه أكثر دقة، و كونه يعطي معلومات و تفاصيل عن خواص المواد، حيث يستند عمله أساساً على قياس القوى في المستويات الجزيئية و الذرية، لرسم محاكاة عن العينة المدروسة.

و مع تطور تقنيات الكشف المجهري، و التطور المرافق بمجال المعالجة الحاسوبية، و امتلاك البشرية للمرة الأولى قدرة التحكم بالمواد على مستويات جزيئية و ذرية، بدأ الفرع العلمي و التقني الجديد، المعروف باسم “تقانة النانو” باكتساح كافة مجالات العلم و التقنية.
و في غياب مصطلح عالمي موحد لتقانة النانو، فإنه يمكن تحديدها استناداً للعمليات و البحوث العلمية التي تجري على أٍساسها: “فهي التقانة التي تهدف لبناء مواد و مركبات جديدة، بمواصفات مرغوبة أكثر، و بفعالية أكبر، عبر التلاعب بالخواص الفيزيائية و الكيميائية للمواد على مستويات من رتبة النانومتر”.

و النانومتر الواحد وحدة قياس، أصغر من المتر نفسه بـ مليار متر، و للتوضيح، فإن شعرة الإنسان البشري تبلغ من القطر حوالي 80 ألف نانومتر، و الإنسان بشكل متوسط يبلغ طوله حوالي 2 مليار نانومتر!

و للتوضيح أكثر، فإننا نستخدم المجاهر (مثل المجهر الضوئي و الالكتروني) لرؤية الأجسام البالغة الصغر، و التي كل منها يقع عند مجال معين من القياس، فالبكتيريا و الفيروسات يمكن رؤيتها عند مجال الميكرومتر، أي أصغر من المتر الواحد بحوالي مليون مرة، بينما مركبات أكثر صغراً مثل شرائط الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين DNA، و التي تبلغ أقطارها 2 نانومتر، فلا يمكن رؤيتها و تحديدها باستخدام هذه المجاهر، و مركب مثل جزيئة الماء مثلاً، يبلغ قطره نانومتر واحد، بينما الأبعاد الوسطية للذرة، فتبلغ حوالي 0.1 نانومتر.
و بالنسبة للمواد التي اصطلح على تسميتها “مواداً نانوية” فهي المواد التي تكون حدود أبعادها أقل من 100 نانومتر، و أي مادة يتم إنشائها أو تعديلها، و بأبعاد أقل من 100 نانومتر، فهي تعتبر مادة نانوية.

هنا يأتي السؤال: لماذا التصغير؟ و لماذا التعامل مع المواد عند هذه المقاييس الصغيرة؟
الإجابة تتحدد بسؤال آخر: ما هي الأمور التي تحدد سلوك المادة و طبيعتها؟ ما هي الأمور التي تجعل بعض المواد قاسية، و الأخرى طرية، ما الذي يجعل بعض المواد ناقلة للكهرباء، و الأخرى عازلة؟ ما الذي يجعل بعض المواد مقاومة للماء، و الأخرى محبة له؟

الجواب هو ما سيقودنا لتقانة النانو; فخواص أي مادة في الطبيعة، تتحدد بشكل أساسي من تركيبها الذري و الجزيئي، و كيفية ارتباط ذرات المادة مع بعضها البعض، و نوعية الروابط فيما بينها، و بالتالي، عبر تعديل أو تغيير شكل هذه الروابط، أو تعديل شكل بنية المادة في المستوي الجزيئي و الذري، نستطيع الحصول على مادة جديدة، بالمواصفات المطلوبة، و لعل مثال الألماس و الغرافيت هو أشهر مثال طبيعي على ذلك، فالألماس، أحد أقسى المواد المعروفة في الطبيعة، يتكون من ذرات الكربون، و الغرافيت، أحد أكثر المواد الهشة الموجودة في الطبيعة يتكون من الكربون، فلماذا أحد المواد مرغوبة و مطلوبة، و الأخرى هشة و رخيصة الثمن، طالما أن كلاهما يتكون من نفس وحدة البناء الأساسية – أي ذرة الكربون؟ السبب هو بشكل توضع ذرات الكربون، فالألماس يتكون من جزيئات ذات بنية منتظمة و مرتصة من الذرات، بخلاف الغرافيت الذي يتكون من شرائح بينها فراغ جزيئي كبير، و هذا الاختلاف البسيط، على المقياس الجزيئي، هو ما يجعلنا نرى كل مادة بشكل مختلف تماماً في المستوى و المجال المرئي، و ما يسعى العلماء لأجله، عبر تقانة النانو، هو امتلاك القدرة الكاملة على تعديل خواص المواد و مميزاتها، على المستويات الذرية و الجزيئية، للوصول لمادة عالية الكفاءة و مرغوبة الخواص، في المستويات المرئية.

في أيامنا هذه، أصبحت تقانة النانو مجال البحث العلمي الأول حول العالم، و منذ بداية الألفية الجديدة (تحديداً منذ عام 2000 عندما أعلن في الولايات المتحدة الأمريكية عن المبادرة الوطنية الأمريكية لتقانة النانو NNI) تزايد الاهتمام بمجال البحث و التطوير بتقانة النانو على نحو غير مسبوق، و تزايد عدد الشركات المصنعة لمواد و مركبات جديدة اعتماداً على تقانة بشكل كبير جداً، و بالفعل فقد أصبح هناك العديد من المنتجات المطورة اعتماداً على تقانة النانو، مثل أنظمة التوصيل الدوائي الذكية التي تستهدف و بدقة أماكن المرض بدون أن تسبب آثاراً جانبية للخلايا السليمة، كما يتم حالياً التركيز على صناعة معالجات حاسوبية فائقة اعتماداً على مواد نانوية مثل أنابيب الكربون النانوية و الغرافين، فضلاً عن التوجه لتحسين كفاءة أنظمة توليد الطاقة الكهربائية (خصوصاً الخلايا الشمسية) اعتماداً على تغيير و تعديل بنية المواد النصف ناقلة، و مؤخراً تم التمكن من رفع فاعلية الخلايا الشمسية لحوالي 44% باستخدام تقانة النانو، بعد أن كانت لا تتجاوز الـ 20%.

هذه كانت عبارة عن مقدمة مختصرة، و سريعة، حول تقانة النانو و ما الذي تعنيه، و دورها الحديث و المستقبلي في الصناعة التقنية البشرية، و سيكون لنا في المستقبل مقالات أخرى تتحدث بشكل مفصل أكثر عن علاقة تقانة النانو بالعلوم الالكترونية و الحاسوبية، و الدور الذي تلعبه في إمكانية إنجاز بعض الأفكار التقنية الرائدة، مثل الحواسيب الكمومية و الالكترونيات السبينية.

للمزيد حول تقانة النانو يمكنكم زيارة المواقع الاختصاصية التالية:
موقع المبادرة الوطنية الأمريكية لتقانة النانو NNI:
http://www.nano.gov/

موقع Nanowerk، أول موقع علمي مختص بتقانة النانو:
http://www.nanowerk.com/

موقع Phys.org، أحد أهم المواقع العلمية الشاملة:
http://www.phys.org/

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى