علوم الحاسب

مقدمة إلى الترابط الدماغي الحاسوبي BCI

  iStock_000009590567Medium

بفضل القدرة المتنامية والمتزايدة بشكل كبير للحواسيب مع مرور الوقت، وتعاظم قدرتها على أداء عمليات معالجة المعلومات وتخزينها، يبدو أن بعض الأفكار التي كانت تصنف كـ “خيالٍ علمي” ستصبح حقيقة ملموسة مع مرور الوقت، وبعضها بالفعل قد أصبح واقعاً ملموساً، مثل فكرة التحكم بالآلات عبر أفكارنا ودماغنا، بدون أن نقوم بلمسها فيزيائياً.

هذه الفكرة التي قد تبدو للبعض أحلاماً أو من وحي أفلام الخيال العلمي، ليست إلا أحد أحدث التطبيقات التقنية في مجال الطب الحيوي الحديث. فالترابط الدماغي الحاسوبي BCI: Brain Computer Interface هو المصطلح العلمي الذي يوصف عملية تحويل الإشارات الكهربائية الناتجة عن النشاط العصبي لخلايا الدماغ، إلى أوامرٍ يتم عبرها التحكم بالآلات والأنظمة الالكترونية والأجهزة، وهي أيضاً التطبيق الذي يعتبره البعض أهم الإنجازات التقنية خلال عقود.

للتعرف أكثر على تقنية الترابط الدماغي الحاسوبي، علينا أولاً التعرف على بعض الأساسيات الهامة المتعلقة بدماغ الإنسان وكيفية عمله، ومنه سنبدأ.

الإشارات الكهربائية للدماغ EEG
يتكون الدماغ البشري من مجموعة من الخلايا التي تعرف بالـ “عصبونات Neurons” والتي تتصل مع بعضها البعض بمحاورٍ عصبية طويلة. تكون هذه العصبونات بحالة عمل في كل مرة نقوم بتنفيذ شيء ما: نتحرك، نفكر، نشعر، نتذكر..الخ. ويتم عمل العصبونات كما يلي: عندما نريد أن نقوم بأمر ما، مثل رفع كوب ماء لشربه، تقوم العصبونات بتوليد إشارة عصبية كهربائية، تنتقل عبر المحاور العصبية إلى وحدات تنفيذ الأوامر، والتي هي العضلات والعظام، وتبلغ سرعة نقل هذه الإشارات 250 ميل بالساعة (حوالي 400 كم بالساعة). هذه الإشارات الكهربائية يتم توليدها أساساً عبر الفرق بالكمون الكهربائي في أغشية الخلايا العصبية.

Brain-Waves-Graph
للإشارات الدماغية أشكال وأنماط مختلفة، تتغير بحسب المنطقة الدماغية وبحسب نوع العملية التي تقوم بها العصبونات، هذا الأمر يجعل تسجيل النشاط الكهربائي للدماغ أمراً صعباً

وعلى الرغم من أن مسار الإشارات العصبية الكهربائية معزول، إلا أنه ليس معزول بشكل مثالي، وبالتالي تتمكن بعض الإشارات العصبية الكهربائية من التسرب منه. وما يقوم به أخصائيو الدماغ والطب العصبي هو التقاط هذه الإشارات وتسجيلها لتحديد الفعالية والنشاط العصبي لخلايا الدماغ العصبية، وبالتالي تحديد حالة الدماغ ككل. يمكن أيضاً القيام بالأمر المعاكس، أي تحديد استجابة الخلايا العصبية للدماغ عندما يتم نقل تنبيه عصبي من عضو حساس مثل العين: عندما ترى العين لوناً محدداً، يتم تشكيل تنبيه عصبي يرسل للدماغ كي يفسر. العصبونات في الدماغ هي من سيقوم بتفسيره، وبالتالي فإنها ستنتج أيضاً إشارات كهربائية أثناء عملها. هكذا يمكن أن نعرف بالضبط كيف يعمل الدماغ وكيف يفهم العالم المحيط بنا.

الآن، كيف سنستفيد من هذه المعلومات كلها في تطبيق مفيد؟ هذا يقودنا للتعريف بنظام الترابط الدماغي الحاسوبي وكيف يعمل.

( للمزيد من التفاصيل اقرأوا مقالنا: ما هي الموجات الدماغية ؟ )

الترابط الدماغي الحاسوبي: الدخل والخرج BCI Inputs and Outputs
حتى الآن، فإننا قد عرفنا أن الترابط الدماغي الحاسوبي هو عبارة عن تقنية تعتمد على الإشارات الكهربائية للدماغ، في سبيل التحكم بجهاز ما أو تطبيق ما، اعتماداً فقط على أفكار الشخص نفسه.

إذاً، الخطوة الأولى (وهي أصعب خطوة) ستكون تأمين واجهة ترابط فعالة، تقوم بتسجيل هذه الإشارات، وتحويلها لمعطيات مفيدة تساهم بالتحكم بالتطبيق المطلوب، ووفقاً لأفكار الشخص نفسه. هذا ما يعرف بـ “آلية الترابط Interface Mechanic”.

أبسط آليات الترابط هي الاعتماد على المخطط الكهربائي للدماغ EEG، كونه طريقة غير جراحية يمكن عبرها تسجيل النشاط الكهربائي للدماغ، حيث يتم وضع الكترودات قياس خارجية على سطح الرأس، وهي تتولى عملية التحسس للإشارات الكهربائية الناتجة عن عمل العصبونات ثم تقوم بتكوين إشارة كهربائية متناسبة معه – أي يتم تحريض الالكترودات بناءً على الإشارات الكهربائية للدماغ – ثم يتم تضخيم هذه الإشارة وترشيحها والتخلص من الضجيج المرافق لها (مطالات الإشارات الكهربائية للدماغ من رتبة الميكروفولط وهي إشارات ضعيفة جداً) ثم ترسل هذه الإشارات ليتم تسجيلها ضمن نظام حاسوبي متخصص. هذه الطريقة لا تتميز بالدقة المطلوبة والكافية لتأمين إشارة قوية وفعالة يمكن استثمارها من أجل التحكم بجهازٍ ما.

الطريقة الثانية الممكن استخدامها كآلية ترابط هي وضع الكترودات القياس مباشرةً ضمن المادة الرمادية للمريض، عبر إجراء جراحي بسيط. هذه الطريقة تؤمن دقة أكبر من حيث التقاط وتسجيل الإشارات الكهربائية، كما تؤمن دقةً أعلى من حيث نوعية الإشارة المسجلة; يمكن وضع الالكترودات بالمنطقة الدماغية المعينة المطلوب تسجيل إشارتها، مثل منطقة التفكير الواعي، أو الذاكرة، أو الإحساس وهكذا. مشكلة هذه الطريقة أنها تتطلب عملاً جراحياً، كما أن الالكترودات المتوضعة بالدماغ ستسبب ندباً بمكان زرعها، وهذه الندب ستؤثر سلباً فيما بعد على جودة الإشارة المستخلصة.

وبغض النظر عن مكان وكيفية توضع الالكترودات (سواء كانت خارجية على سطح الرأس أو داخلية على المادة الرمادية) فإن آلية العمل واحدة: الالكترودات تقوم بتسجيل النشاط الكهربائي للعصبونات، ثم يتم تضخيم الإشارة، ثم ترشيحها والتخلص من الضجيج المرافق لها، ومن ثم تفسيرها عبر برنامج حاسوبي متخصص. وفي أنظمة الترابط العكسية، يتم القيام بالإجراء المعاكس: يقوم نظام حاسوبي بتوليد الجهد المناسب والكافي لتنبيه العصبونات وترسل الإشارة إليها.

يوجد أيضاً وسائل أخرى لقياس النشاط الدماغي باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي MRI. تتمتع أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي بأداء عالي الدقة في تصوير وإظهار النشاط الدماغي، إلا أنه لا يمكن استخدامها كجزء من نظام ترابط دماغي حاسوبي، وذلك بسبب حجمها الكبير وبنيتها المعقدة وضجيجها العالي.

إذاً كخلاصة لفقرتنا هذه، يمكننا القول أن دخل نظام الترابط الدماغي الحاسوبي هو الإشارة الكهربائية للدماغ التي تفسر من قبل نظام حاسوبي متخصص، وخرجه هو أمر مناسب يهدف للتحكم بتطبيق معين.

تطبيقات الترابط الدماغي الحاسوبي BCI Applications
أحد أهم التطبيقات التي نتجت عن تقنية الترابط الدماغي الحاسوبي هي إمكانية التحكم بتطبيق ما عبر الأفكار. ولعل أهم ما يمكن أن ينتج عن ذلك هو استغلال هذه الميزة من أجل المرضى الذين يعانون من مشاكل وظيفية حركية. فعبر الترابط الدماغي الحاسوبي، سيستطيع هؤلاء المرضى التواصل مع حاسوبهم الشخصي، أو تحريك كرسيهم المدولب، أو التحكم بجهاز التلفزيون الخاص بهم، أو مشغل الموسيقى، أو أي جهاز منزلي يتم استخدامه في الحياة اليومية، بكفاءةٍ وفاعلية تامة.

أحد التطبيقات الهامة الأخرى للترابط الدماغي الحاسوبي، يتمثل بالأذرع الروبوتية الحيوية Bionic Arm. فبالنسبة للأشخاص الذين فقدوا أذرعهم، فإن إمكانية تعويض الذراع بأخرى حية سليمة شبه مستحيلة. والحلول البدائية لهؤلاء الأشخاص هي بتركيب ذراع اصطناعية ميكانيكية، تساعدهم بالقيام ببعض الأمور الحياتية، إلا أنها غير قابلة للحركة وأداء الوظائف الحركية وفقاً للأوامر الدماغية التي يريدها الشخص نفسه.

وفي عام 2006، أعلن وبنجاح عن أول عملية جراحية في العالم، لتركيب ذراع روبوتية حيوية لمريضة تدعى “كلوديا ميتشل”، بحيث تستطيع المريضة التحكم بكافة حركات الذراع ومفاصلها كما تريد، وكأنها ذراعها نفسها! التقنية هنا كانت تتمحور بتحويل أفكار كلوديا إلى إشارات كهربائية مناسبة تمثل أوامر للمحركات المسؤولة عن إدارة الذراع ومفاصلها كما تريد كلوديا وكما تفكر.

كلوديا ميتشل، أول امرأة تنال يداً روبوتية يمكن التحكم بها عبر الدماغ والأفكارا الواعية في عام 2006
كلوديا ميتشل، أول امرأة تنال يداً روبوتية يمكن التحكم بها عبر الدماغ والأفكارا الواعية في عام 2006

إذاً، الترابط الدماغي الحاسوبي أمر رائع أليس كذلك؟ على الرغم من كونه رائعاً، ويستحق الاهتمام، إلا أنه لا يزال يواجه العديد من الصعوبات، ولا يمكن القول أنه وصل لنقطة يمكن اعتباره حلاً ممكناً وقابلاً للتطبيق في أي وقت. فلو عدنا لأساس التقنية، والذي يعتمد على تسجيل الإشارات الكهربائية للدماغ، فإن هذا الأمر لا يزال يتطلب تحسيناً كبيراً من حيث دقة الإشارات المستخلصة والمسجلة، فضلاً عن كون المطال الكهربائي لإشارات الدماغ منخفض جداً ويتطلب مراحل متقدمة من تضخيمها وترشيحها، لتصبح مناسبة لمراحل المعالجة الحاسوبية اللاحقة. كما أن التكلفة نفسها لا تزال مرتفعة، وتعقيد النظام ككل لا يزال غير مريح بالنسبة للمريض الذي سيستخدمه.

هذه كانت مقدمة مختصرة وسريعة عن الترابط الدماغي الحاسوبي، وأهم أجزائه وتطبيقاته والمعوقات التي لا تزال تواجهه. وسنقوم مستقبلاً بنشر مواضيع أخرى أكثر تفصيلاً تتعلق بهذ المجال.

المصادر:
1- موقع HowStuffWorks
2- موسوعة ويكيبيديا
3- نظام iBrain الخاص بالعالم ستيفن هوكنغ
4- قصة كلوديا ميتشل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى