المساحة الإخبارية

الحواسيب الفائقة تساعد العلماء على اكتشاف أصغر جسيمات الكون

تتطلب تجارب فيزياء الجسيمات تجهيزاتٍ معقدة وتجارب عالية الطاقة، إلا أن الحواسيب الفائقة قد توفر وسيلةً فعالة لفهم خصائص الجسيمات بالغة الصغر عبر استخدام تقنيات المحاكاة

فهمنا لخصائص المادة يتطلب فهماً لخصائص الكواركات

اعتاد العلماء على استخدام مسرّعات الجسيمات للتعرف عن كثب على بينة المادة وقوانين الفيزياء التي تحكم العالم منذ فترة ثلاثينيات القرن الماضي. تعتبر هذه المسرّعات من أكثر الأدوات التجريبية فعاليةً في الوقت الراهن، إذ تدفع الجسيمات بسرعة تعادل سرعة الضوء تقريباً، لتتصادم مع بعضها البعض، ما يسمح لعلماء الفيزياء دراسة التفاعلات الناتجة والجزيئات المتشكلة.

تهدف العديد من أكبر مسرعات الجزيئات إلى فهم بنية الهادرونات وهي جسيمات دون ذرية مثل البروتونات أو النيوترونات التي تتكون بدورها من جُسيمين أو أكثر تُعرف باسم الكواركات التي تُعتبر من أصغر الجسيمات الموجودة في الكون وتحمل قدراً ضئيل جداً من الشحنة الكهربائية. توصل العلماء إلى طريقة تشكيل الهادرونات من الكواركات، إلا أن التّعرف على خصائص الكواركات بشكلها المفرد كان مهمة صعبة؛ إذ لا يمكن ملاحظتها خارج نطاق الهادرونات الخاصة بها.

وباستخدام حاسوب سوميت العملاق في مختبر أوك ردج الوطني التابع لوزارة الطاقة الأمريكية، نجح فريق من علماء الفيزياء تحت إشراف كوستاس أورجينوس في منشأة مسرع توماس جيفرسون الوطني وكلية وليام وماري بتطوير طريقة واعدة لقياس تفاعلات الكواركات ضمن الهادرونات، وقاموا بتطبيقها على عمليات المحاكاة باستخدام الكواركات مع كتل شبه مادية close-to-physical Masses. استخدم الفريق من أجل استكمال عمليات المحاكاة تقنية حاسوبية قوية هي الكروموديناميكا الكمومية المتداخلة (المتشابكة) Lattice Quantum Chromodynamics، وذلك بالإضافة إلى القدرات الهائلة التي يوفرها الحاسوب سوميت، أسرع حاسوب عملاق في الولايات المتحدة الأمريكية.

وحول هذا الموضوع، قال جو كاربي، عالم أبحاث ما بعد الدكتوراه في جامعة كولومبيا ومؤلف الورقة البحثية: “لم يتعرف العلماء سوى على جزء بسيط من طاقة وقوة الكواركات الدافعة عند تواجدها في البروتون، لذلك لا يمكنهم معرفة فيما إذا كانت الكواركات قادرةٌ على التحول إلى نوع مختلف أو جسيم آخر. وبينما اعتمدت الآليات الحسابية السابقة على الكتل الكبيرة لتسريع العمليات، نجحنا اليوم بمحاكاة هذه العملية على نحو مشابه جداً للكتلة المادية، وبإمكاننا تطبيق نتائج هذه النظرية على البيانات التجريبية لوضع توقعات أفضل حول المادة دون الذرية”

ستستكمل العمليات الحسابية التي استخلصها الفريق التجارب المُقامة على مصادم أيونات الإلكترون EIC التابع لوزارة الطاقة الأمريكية، وهو مصادم جسيمات سيتم بناؤه في  مختبر بروكهافن الوطني لتوفير خرائط مكانية مفصلة وثلاثية الأبعاد تستعرض كيفية توزع الجسيمات دون الذرية داخل البروتون. ومن خلال فهم خصائص الكواركات الفردية، يتوقع العلماء فهم نتائج تفاعل الكواركات مع جسيمات بوزون هيجز -جسيم أولي مرتبط بمجال هيجز الذي يشكل حقلاً يعطي كتلة للمادة التي يتفاعل معها. ويمكن توظيف هذه الطريقة أيضاً لمساعدة العلماء على فهم الظواهر التي تحكمها القوة النووية الضعيفة المسؤولة عن التحلل الإشعاعي.

المحاكاة على أصغر المقاييس

يقوم العلماء عادةً بحساب المعدل الوسطي لخصائص الكواركات في البروتونات التي تحتضنها لرسم صورة دقيقة حول آلية عمل الكواركات. وباستخدام نتائج تجارب المصادم مثل التي أجريت في مصادم الأيونات الثقيلة النسبوية BNL في مختبر بروكهافن الوطني أو مصادم الهدرونات الكبير في مختبر سيرن أو مصادم أيونات الإلكترون المرتقب EIC التابع لوزارة الطاقة الأمريكية، يمكن للعلماء التعرف على جزء من طاقة وقوة الكوارك الدافعة. لكن التنبؤ بمدى تفاعل الكواركات مع جسيمات مثل بوزون هيغز وحساب التوزيع الكامل لطاقات الكواركات وقوتها الدافعة ما يزال تحدياً كبيراً في دراسة فيزياء الجسيمات.

انضم بالينت جو إلى فريق العمل في مركز أوك ريدج للحوسبة القيادية التابع لوزارة الطاقة الأمريكية. وقد اعتمد للبدء في معالجة هذه المشكلة على حزمة كروما Chroma البرمجية المستخدمة في حسابات الكروموديناميكا الكمومية المتداخلة (المتشابكة) LQCD وكذلك على منصة كيودا QUDA التابعة لشركة إنفيديا. تعطي الكروموديناميكا الكمومية العلماء القدرة على دراسة الكواركات وجسيمات الغلوون -التي تعتبر جسيمات أولية تربط الكواركات مع بعضها بفضل قوامها الشبيه بالغراء- عبر جهاز حاسوب من خلال تمثيل الزمكان كشبكة تشكّل حقلي الكوارك والغلوون. وباستخدام برمجيات Chroma و QUDA، تمكن جو من جمع لقطات لحقل القوة الشديدة في مكعب من الزمكان، وقد عدّل اللقطات لوصف نشاط الكواركات في الفراغ. أخذ أعضاء الفريق الآخرون هذه اللقطات وقاموا بمحاكاة ما يمكن حدوثه عندما تتحرك الكواركات في مجال شديد القوة، ويقول جو بهذا الخصوص :” في حال إسقاط كوارك في هذا المجال، سوق ينتشر بشكل مشابه لطريقة سقوط شحنة كهربائية في مجال كهربائي وانتشار الكهرباء عبره”.  

وقال جو: “لقد وضعنا ما يعرف باسم كتل الكوارك المجردة وأزواج الكوارك والغلوون المقترنة في عمليات المحاكاة التي أجريناها. يجب حساب كتل الكوارك الفعلية، والتي تنشأ من هذه القيم المجردة، من عمليات المحاكاة -على سبيل المثال، من خلال مقارنة قيم بعض الجسيمات المحسوبة مع نظيراتها في العالم الفعلي، والتي تم التعرف عليها تجريبيا”.

وبناءً على التجارب الفيزيائية، أدرك الفريق أن أخف الجسيمات الفيزيائية التي جرى محاكاتها – ميزونات باي أو بيونات- يجب أن تبلغ كتلتها حوالي 140 ميغا إلكترون فولت. وقد تراوحت حسابات الفريق بين 358 ميغا إلكترون فولت و172 ميغا إلكترون فولت، وهي قيمة فريبة للكتلة التجريبية للبيونات.

تطلبت عمليات المحاكاة قوة حاسوب سوميت بسبب عدد اللقطات الفراغية التي كان على الفريق أن يجمعها، وعدد أدوات نشر الكواركات التي ينبغي حسابها. ومن أجل تقدير النتائج على كتلة الكواركات الفيزيائية، كان لا بدّ من إجراء الحسابات على ثلاث كتل مختلفة من الكواركات. استخدم الفريق بالإجمال أكثر من ألف لقطة على ثلاث كتل كوارك مختلفة في مكعبات شبكية تتراوح من 323 إلى 643 نقطة في الفراغ. وقال كاربي في هذا السياق: “كلما اقتربت كتل الكواركات في عملية المحاكاة من الواقع، ازدادت صعوبة المحاكاة. وكلما كانت أخف، تطلبت العملية المزيد من التكرار في المحاليل، لذلك شكل التعرف على كتل الكواركات الفيزيائية تحدياً كبيراً بالنسبة لحسابات الكروموديناميكا الكمومية”.

تحسين الخوارزميات يفتح الباب أمام فرص جديدة

أشار جو الذي اعتاد على استخدام برمجيات كروما Chroma على أنظمة OLCF منذ عام 2007 إلى أن التحسينات في الخوارزميات قد ساهمت على مر السنين في تحسين القدرة على إدارة عمليات المحاكاة في حالتها الفيزيائية. فالتحسينات الخوارزمية مثل الحلالات مُتعددة الشبكات Multigrid Solvers وتطبيقاتها في منصات البرمجيات الفعالة مثل كيودا QUDA إلى جانب الأجهزة القادرة على تطبيقها قد جعلت عمليات المحاكاة هذه ممكنة.

وعلى الرغم من أن الاعتماد على منصة كروما بشكلٍ أساسيّ، يعتقد جو أن التطور الذي تشهده البرمجيات سيسهم في توفير مزيدٍ من الفرص لمواجهة التحديات الجديدة في فيزياء الجسميات. وأردف جو: “على الرغم من العمل وفق البرمجيات ذاتها على مر السنين، هناك الكثير من التحديات الحاصلة نتيجة ابتكار آليات جديدة ووحدات معالجة رسوميات جديدة”.

يخطط الفريق مستقبلاً لاستكشاف الغلوونات والحصول على صورة متكاملة ثلاثية الأبعاد للبروتون بمكوناته المختلفة.

تم نشر نتائج البحث ضمن ورقة علمية في دورية فيزيكال ريفيو ليترز Physical Review Letters.

المصدر: [مختبر أوك ردج الوطني Oak Ridge National Laboratory]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى