كيف تعمل الأشياء

كيف تعمل الأشياء: المركز الأوروبي للأبحاث النووية CERN

إذا ألقينا نظرة سريعة على تاريخ العلم، فإننا سنستطيع رؤية الأثر الكبير الذي ساهمت به التكنولوجيا في الحصول على نتائج علمية هامة. ففي قديم الزمان ومع بدايات عصر النهضة في أوروبا نرى بأن تطوير غاليليو للتليسكوب ساهم بشكلٍ كبير في اكتشافاته المُذهلة بمجال علم الفلك، مما عزز الأدلة السائدة عن بطلان مَنظومة بطليموس الفلكية. وهكذا استمرت التكنولوجيا عبر التاريخ بتقديمها للوسائل التي تساهم بتطوير العلم وفتحت آفاقاً جديدة للعُلماء تمكنوا عبرها من معرفة العديد من التفاصيل عن كيفية عمل الكون.

وفي عام 2013، مُنح الفيزيائي الاسكتلندي بيتر هيغز جائزة نوبل في الفيزياء نتيجةً لاكتشافه بوزون هيغز، حيث قام بتوقعه قبل أكثر من أربعين عام. ولكن كيف تم هذا الاكتشاف؟ وما دور التكنولوجيا في ذلك؟

هذا ما سنقوم بتوضيحه في المقال التالي:
قبل أكثر من 42 عاماً اقترح الباحث البريطاني في الفيزياء النّظرية بيتر هيغز مع زملائه وجود جسيمٍ ما مسؤول بشكل أساسي الكتلة التي تمتلكها المادة. عندما أكد العلماء نظرية هيغز في القرن الحادي والعشرين فتحوا لنا باباً واسعاً لنرى طبيعة عمل الكون، وهذا ما كرّس آينشتاين والعديد من العلماء الأخرين حياتهم له. وقد تم بالفعل في عام 2012 إثبات وجود جسيم بوزون هيغز، بما يتوافق مع التوقعات النظرية التي قام بها بيتر هيغز قبل أربعين عاماً، وقد مثل هذا الاكتشاف نصراً كبيراً للعلم.

 من المفيد جداً أن نفهم كيف اكتشف الباحثون هذا الجسيم الذي دعي لاحقاً ببوزون هيغز، فالباحثون الذين أثبتوا هذه النظرية لم يقوموا بذلك عبر التليسكوب، أو عبر تحليل البيانات المُجمّعة من مسبارٍ فضائي أو حتى عبر تنفيذ إحدى تجارب آينشتاين التي اقترحها. لقد قاموا بإيجاد بوزون هيغر بعد سنين من العمل البحثي المُضني في مختلف المصادمات ومسرعات الجُسيمات حول العالم، وبخاصة في المركز الأوروبي للأبحاث النووية CERN في سويسرا.

لقد كان البحث عن بوزون هيغز أمراً في غاية الصعوبة لأن فترة حياة هذا الجُسيم صغيرة للغاية، حيث يتحلل ويتفكك لجُسيماتٍ أصغر ضمن مجالٍ زمني بالغ الصغر، وضمن الرحلة الطويلة للبحث عن هذا الجسيم المراوغ، والتي اقترنت بالعديد من الأخطاء، أنفق العلماء في CERN حوالي 10 مليار دولار لإيجاد هذا البوزون (البوزونات هي أحد أنماط الجسيمات دون الذرية، والتي تمتلك قيماً صحيحة من عزم الدوران الذاتي، أو السبين).

احتل اكتشاف بوزون هيغز الصفحات الأولى في مختلف الجرائد العالمية وخاصة العلمية منها. على الرغم من ذلك، فإن معظم الأشخاص لا يعرفوا تماماً كيف تم هذا الاكتشاف، وهذا ما سنحاول توضيحه في مقالنا هذا.

CERN_Wooden_Dome_5
المركز الأوروبي للأبحاث النووية CERN، جنيف، سويسرا

داخل المركز الأوروبي للأبحاث النووية CERN
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت أوربا في حالةٍ من الفوضى، وقد انعكس هذا بشكل سلبي على المُجتمع العلمي والبحثي فيها، وقد احتل علماء الولايات المتحدة الأمريكية الصدارة في الأبحاث والاكتشافات الفيزيائية الجديدة.

استمر هذا إلى أن اقترح عالم الفيزياء الكمومية الفرنسي لويس دي بروي بناء مُختبر أوروبي فيزيائي خاص بالأبحاث الذرية، فكان أن تم بناء CERN بعد عدد قليل من السنين في المنطقة المُحيطة بمدينة جنيف في سويسرا.

كانت مَهمة CERN الأساسية هي معرفة كيف يعمل الكون، وقد اقترح العُلماء بناء آلاتٍ عملاقة تقوم بصدم الجزيئات دون الذريّة ببعضها البعض من أجل الإجابة على هذا السؤال. تركز أمل  العُلماء بشكلٍ أساسي على أن تُعطي هذه التّصادمات لمحةً عن الأحداث التي تلت ولادة الكون.

وبناءً على هذه الأفكار، تم بناء أول مسرع في CERN عام 1957 وقد أطلقوا عليه آنذاك اسم Synchrocyclotron، واستمر بالعمل فترة 33 عام متواصل، ويمتلك CERN الآن عدة مُسرعات للجُسيماتـ ومُبطئ واحد ضمن بنية معقدة.

حتى عام 2014، أشارت الإحصائيات إلى وجود 2400 عامل بدوامٍ كامل و1500 بدوام جزئي في CERN. ويستطيع أكثر من 500 معهد وجامعة في العالم استخدام التجهيزات التي يُوفرها CERN للبدء بمحاولاتٍ جديدة للإجابة عن أسئلة تتعلق بالعديد من الأمور الغامضة كالثقوب السوداء، المادة المُضادة، والأحداث التي حصلت بعد جزء من الثانية من الانفجار العظيم، كما يزور CERN أكثر من 10 آلاف باحث وعالم من 113 دولة في العالم (حوالي نصف عدد فيزيائي الجُسيمات في العالم) لإجراء بعض الأبحاث.

صادم الهاردونات الكبير LHC: Large Hadron Collider
ببساطة، فإن مسرع الجسيمات المعروف باسم “صادم الهادرونات الكبير LHC” هو أيقونة الفيزياء الحديثة، وهو بكل تأكيد أحد أهم الإنجازات التقنية العملاقة للبشرية عبر التاريخ، فهو أكبر مسرع جسيمات تم بناؤه حتى الآن بطولٍ يبلغ 27 كيلو متر، كما أنه أقوى مسرعات الجسيمات من حيث طاقة العمل، حيث تصل الطاقة القصوى لهذا المسرع حتى 7 تيرا إلكترون فولط، ومن المفترض أنها ستصل حتى 14 تيرا إلكترون فولط بعد عمليات الصيانة والتحديث التي تتم فيه حالياً. يتضمن هذا المسرع الضخم مغانط ضخمة فائقة الناقلية، كل منها بطول 15 متر ووزن 35 طن، ويقع على عمق 100 متر تحت سطح الأرض.

cern_overview
المساحة الجغرافية الكبيرة التي يمتد عليها صادم الهادرونات الكبير

كيف يعمل صادم الهادورنات الكبير؟ المبدأ بسيط جداً: تصطدم حُزمتان من البروتونات، وتكون سرعتهما عند التصادم حوالي 99.9999991% من سُرعة الضوء. في كل مرة تصطدم فيها البروتونات ببعضها البعض، فإنها تُخلّف وراءها رذاذاً معقداً من الجُسيمات الأخرى. فكما تخبرنا الفيزياء، فإن البروتونات وعلى الرغم من صغرها، فإنها بدورها تتكون من جسيماتٍ أصغر منها تدعى “الكواركات Quarks” والتي تتألف أيضاً من جسيماتٍ أصغر وأعقد وهكذا. قد يبدو الأمر غريباً بالنسبة لكم، ولكن عالم الذرة بمثابة الصندوق السحري الذي كلما فتحناه كشف لنا عن تفاصيلٍ أكثر. وبالعودة للجسيمات التي نحصل عليها نتيجة تصادم البروتونات، فإن أغلبها يختفي ضمن أجزاءٍ قليلة جداً من الثانية، ولكنها تترك وراءها بعض الآثار مما يُمكّن للعلماء من مُلاحقتها عبر الاستعانة بأجهزة تعقّب شديدة التعقيد، وهي الكواشف الأربعة الأساسية المزود بها صادم الهادرونات الكبير.

20110822cms
المغانط الضخمة فائفة الناقلية ضمن صادم الهادرونات الكبير على عمق 100 متر سطح الأرض

إحدى هذه الكواشف الضخمة يدعى بـ ATLAS، وهي آلة طولها 45 متراً وعرضها حوالي 25 متر. يبلغ حجم هذا الحجاز حوالي نصف حجم كاتدرائية نوتردام، ويزن نفس زون برج إيفل. ساعد كاشف ATLAS مع كاشف CMS في اكتشاف جُسيم بوزون هيغز. ويقوم العلماء باستخدام كاشف ATLAS والكواشف الأخرى مثل (ALICE, CMS, LHCb, LHCf) لدراسة بعض الأشياء التي غالباً ما نقرأها في كتب الخيال العلمي، مثل: هل توجد أبعاد أخرى، او فيما إذا كان هنالك أي دليل على وجود المادة المُظلمة.

0510029_03
حلقة تسريع الجسيمات ضمن صادم الهادرونات الكبير

تحليل البيانات
حتى الآن، فإننا تحدثنا فقط عن عمليات صدم الجسيمات وحدوثها ضمن صادم الهادرونات الكبير. عمليات الصدم التي تحدث بشكلٍ متواصل، تنتج كمياتٍ كبيرة من البيانات التي تقوم الكواشف التابعة لصادم الهادرونات الكبير. إذاً، فإن عملية صدم الجسيمات هي أمر، بينما عملية تحليل البيانات وتفسيرها فهي أمرٌ آخر كلياً.

CMS_Higgs_Boson_Observation_Wide
صورة حاسوبية لأحد نواتج عمليات الصدم التي تحدث في كل ثانية ضمن صادم الهادرونات الكبير. تعمل الكواشف على التقاط هذه النواتج، وتسجيل كافة البيانات كي تمكن علماء الفيزياء من تفسيرها والبحث عن أي اكتشافٍ جديد.

يحدث في LHC حوالي 600 مليون تصادم في الثانية، والبيانات التي نحصل عليها من هذه التصادمات تستطيع أن تُخبرنا الكثير عن البُنية الداخلية للذرة والقوى التي تجعل الذرة متماسكة، ولكننا بالتأكيد لا نستطيع أن نحصل على كُل البيانات الناتجة عن هذه التصادمات. ويتعلق هذا أيضاً بحجم البيانات الناتجة عن هذه التصادمات. ولو أن كاشف ATLAS – على سبيل المثال – قادر على أن يجمع كل البيانات الصادرة عن التّصادمات، لملأ 100 ألف قرص ليزري CD من البيانات في كل ثانية! لذلك يقوم بجمع جزء صغير من المعلومات كافي لتعبئة حوالي 27 قرص ليزري في كل دقيقة. الخطوة التالية بعد قيام الكواشف بجمع البيانات، هي إرسالها إلى مركز معالجة المعطيات التابع للمركز الأوروبي للأبحاث النووية، وضمن هذا القسم، تبدأ رحلة أخرى من تحليل البيانات، وتصنيفها، وترتيبها، ومن ثم عرضها على العديد من المراكز البحثية والأكاديمية حول العالم، ليقوم الفيزيائيون بدراسة هذه البيانات وتفسيرها، ومحاولة البحث عن اكتشافٍ فيزيائي جديد، أو جسيم جديد، ضمن هذه البيانات الضخمة التي يتم توليدها في كل ثانية.

المصدر: موقع HowStuffWorks

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى